الافتتاحية

دروس بن زايد .. ومراجعات الخبجي

الأربعاء - 20 ديسمبر 2017 - الساعة 04:48 م بتوقيت اليمن ،،،

البعد الرابع :خاص





لم تحفظ الطبقة السياسية شيئا من أدبيات الحرب العالمية الثانية ، كحفظها لعبارة تشرتشل الشهيرة : "في السياسية لا وجود لصداقات دائمة او عداوات دائمة"... غير أن أحدا من المتابعين، أو حتى المعنيين بالصراع اليمني، لم يكن ليتجاسر على إسقاط تلك القاعدة السياسية على علاقة أبوظبي و الإخوان المسلمين.


قبل أسابيع فقط كان الحديث عن لقاء رسمي يجمع ولي العهد الإماراتي الشيخ محمد بن زيد مع رئيس حزب الإصلاح محمد اليدومي ، ضربا من الهرطقة أو التنجيم السياسي.. ولولا الصورة الرباعية التي ضمت أيضا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والقيادي الإصلاحي عبدالوهاب الآنسي، لسارع جميع المتحمسين - وحتى العقلانيين - إلى تكذيب الخبر بل والسخرية من مروجيه.. لكن مفارقات الحرب اليمنية تأبى الامتثال لحسابات المنطق.


مرت بضعة أيام فقط على لقاء الرياض الذي جاء بدون مقدمات، لكن مفاعيله السياسية والعسكرية سرعان ما تبدت في العلن، بدءاً من تصريحات السيد أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، والذي برر فيها تقارب الإمارات مع الإصلاح بإعلان الأخير فك ارتباطه مع جماعة الإخوان المسلمين، ووصولا عند التهدئة الإعلامية التي جاءت لتطفئ نيران الدعاية التحريضية بين الطرفين، وانتهاءً بمعارك بيحان وعسيلان التي قرر فيها الإصلاح تقديم أوراق اعتماده كطرف جاد في مواجهة الحوثيين، بعد أن استفردوا بزمام المشهد السياسي والعسكري شمالا.


بعد مقتل صالح توقع الجميع تحولات عميقة في خارطة التحالفات السياسية اليمنية، وقد تعلق الأمر بدرجة أساسية بلهاث جميع اللاعبين وراء "تركة الرجل المقتول"، والتي ستقود في المحصلة النهائية إلى إفساح مقعد ملائم لنازحي ولاجئي المؤتمر في إطار السلطة الشرعية بغية تعميق العزلة الحوثية.. لكن لعبة الكراسي المتحركة اتسعت لتشمل اللاعبين الإماراتي والإصلاحي..

وكان من الممكن هظم هذا التحول لو أنه جاء باندفاع إصلاحي وضغط سعودي.. إذن، إن الحزب الكبر في اليمن لم يكن مبدأيا على الإطلاق في دعاويه السيادية التي اتخذها نافذة لمهاجمة الدور الإماراتي ووصفه في كثير من الأحيان بـ"الاحتلال"، ونعت حلفاء أبو ظبي بالانفصاليين و "العملاء".. وبعد لقاء الرياض وتداعياته "التهدوية" اتضح أن صخب السنوات الماضية كان مبعثه الغيرة السياسية، لا الروح الوطنية .


المبادرة كانت إماراتية بامتياز، لكن تذويب الجليد المتراكم بين الطرفين لا يعني تدوير الزوايا وبدء علاقة استراتجية بالاتجاه المضاد، فالإماراتي يجد نفسه اليوم معنيا بالانفتاح على كل اللاعبين السياسيين شمالا وجنوبا، بعد أن جرى إسقاط القواعد السياسية القديمة والتي كانت تراهن فيها أبوظبي على مسار التراجع الإصلاحي والإخواني في اليمن والمنطقة، وعلى الصعود المضطرد لجوادي السباق الجنوبي (المجلس الانتقالي) والشمالي (المؤتمر الشعبي العام).


برحيل صالح لم تعد صيغة "٢ زائدا  ١" قابلة للحياة، وأصبح من الضروري تبني مقاربة متعددة، تضمن إضعاف الخصم الحوثي الذي ارتقى اليوم إلى مرحلة العدو الوجودي لكل القوة اليمنية والعربية، وتضمن أيضا تبريد الأجواء السياسية التي قد تنعكس سلبا على الدور المستقبلي لدول التحالف العربي بعد أن تبدل ميزان القوى المحلي في الثاني من ديسمبر الجاري.


ورغم أن الهزات الارتدادية لزلزالي صنعاء والرياض بلغت بقوة الضفة الجنوبية للبلاد، فإن ردود الفعل الحراكية لم تتجاوز مربع الصمت، باستثناء تغريدة شخصية لنائب رئيس "الانتقالي" الشيخ هاني بن بريك، والذي أكمل فيها حجة قرقاش السياسية بتعليلات عسكرية قال فيها إن لقاء الرياض يأتي كضرورة ملحة لعلاج التراجع الميداني في جبهات الشمال.


وبعيدا من حالة التوجس أو الصدمة التي قد تعتري أنفس القيادات الحراكية، أو حتى عن خطابات الشماتة والتشفي التي يروجها جميع المناوئين للحركة الجنوبية، فإن التحولات السياسية الأخيرة تضع الحراك الجنوبي أمام دروس عملية وأسئلة وجودية جرى تأجيلها أو تجاهلها سابقا، ويجدر الوقوف عندها بجدية في هذه اللحظة السياسية الدقيقة.


لقد أسهب قادة المجلس الانتقالي بالحديث عن العلاقة المصيرية بين أبوظبي والجنوب، لكنهم لم يشرحوا يوما المقومات الموضوعية لهذه العلاقة، وهل استوفت حقا شروط الشراكة الاستراتجية المستدامة أم أنها ما تزال مرهونة بالظروف السياسية المتغيرة؟


بالمنطق السياسي فإن الاستدارة الإماراتية لا تعني الإهانة أو التقليل من شأن التحالف الوثيق الذي يربطها بالحراك الجنوبي ممثلا بالمجلس الانتقالي، لكن السؤال الذي يجب وضعه للرأي العام هو لماذا تدار علاقة "الانتقالي" وأبوظبي في الكواليس رغم عمقها وتجذرها، ولماذا تظهر اللقاءات الإصلاحية في العلن رغم محدوديتها؟

الأمر يتعلق بضرورة حسم المجلس لأمره، هل هو تنظيم ثوري أو حزب سياسي أم أنه سلطة موازية لإدارة الجنوب؟

وهل يتعين على المجلس الدخول في معترك اللعبة السياسية اليمنية بقواعدها الحالية، وبالتالي تغييرها من الداخل لمصلحة قضيته، وإجبار جميع حلفائه وخصومه على الاعتراف بشرعيته القانوينة ؟ أم أن الإبقاء على الشعارات الثورية أولى من الواقعية السياسية؟


وهل النأي بالنفس عن أحداث الشمال سياسيا مقابل التدخل فيها عسكريا يكفي لتثقيل المكاسب الحراكية، أم أن الحالة الجنوبية ورغم خصوصيتها ما تزال مرتبطة عضويا بالمجال الحيوي اليمني، وعلى طبقتها السياسية أن تبلور مقاربة جديدة توظف وتحتوي المتغيرات الشمالية ؟ خصوصا وأن السياسات الانعزالية أثبتت فشلها بحكم الحسابات المحلية والإقليمية ، وبالتالي فإنه يجدر بالجميع إعادة تعريف النزعة "الاستقلالية" التي ميزت الحراك الجنوبي في ضوء حقائق الموضوعية الجديدة.


من المؤكد أن أهم درس يتعين على الساسة الجنوبيين تعلمه من بن زايد هو الوضوح والواقعية، ومتى ما توفر هذان الشرطان فإن إعادة التموضع يمينا أو يسارا يكون أمرا مقبولا ولا يصنف على أنه ردة أو انقلاب.

أما الدرس الأخير فيتعلق بضرورة تجاوز الخلافات متى ما كان الهدف النهائي يحتم تقارب الجميع، واللحظة السياسية أيضا تحتم على المجلس الانتقالي الانفتاح على كل قوى وفصائل الحراك وترتيب البيت الجنوبي، وإن لم يكن من خلال الاندماج فمن خلال التحالف.


إن ادعاء حصرية التمثيل الجنوبي من قبل بعض المتحمسين لا يخدم موقع "الانتقالي" بقدر ما يعمل على تنفير إخوته في النظال والهدف، وقد بات ملحا فتح جسور حوار جنوبية جنوبية، فهي عمليا من توسع الحيثية التمثيلية للانتقالي، وهي من تجعله رقما صعبا بالمعادلة السياسية ، يوازي بقوته ونفوذه أي حزب أو قوة سياسية يمنية.


لعل السيد ناصر الخبجي محافظ لحج وأحد أبرز قيادات المجلس الانتقالي كان سباقا إلى الدعوة لمراجعة سياسية شاملة، وهو بذلك يدشن عمليا مرحلة النقد الذاتي البناء، وفي حال جرى البناء على دعوة الخبجي فإن المجلس الانتقالي سيدخل في ورشة عمل مفتوحة مهمتها تضييق رؤيته وتوسيع تحالفاته (جنوبيا ويمنيا وإقليميا)، بعد ان استكمل مخاضات ولادته وتشكيله.


في الجنوب يحفظ الكثيرون الشق الأول من مقولة تشرشل الشهيرة، لكنهم يجهلون بقيتها: "في السياسة ثمة مصالح دائمة"، و"المصالح الدائمة" لا تتجلى نظريا إلا بوجود رؤية استراتيجية واضحة، ولا تترجم عمليا إلا بوجود مصالحة وطنية شاملة.


المادة خاصة بالبعد الرابع يمنع نقل المادة دون الإشارة للمصدر