ادبــاء وكُتــاب


الأربعاء - 13 مارس 2019 - الساعة 07:29 م

كُتب بواسطة : نبيل الصوفي - ارشيف الكاتب



من الحجرية مرة أخرى.. بداية التاريخ ومنتهاه.
لا.. هي البداية فقط.. ينتهي التاريخ في كل مكان لكنَّه عندها يدور كأنه مبتدأ من جديد.

كنت أزورها دائماً وأنا قادم من الشمال.. هبوطاً صوب السواحل، لكن هذه المرة جئتها من السواحل، باحثاً عن قلب تعز وعقلها وروحها.

مَرَرتها كثيراً كقارئ، وأنا الصبري الذي لا يدري لماذا توقفت الحجرية على حدود “جبل صبر”، مع أنها تصل إلى سامع والصلو وجبل حبشي.. واليوم أعود لها باحثاً عن بقايا وطن، أهدرته صراعات السلطة.

أعود لها بعد أن انهار وطني الذي انتهى عندي يوم الثاني من ديسمبر، فسواءً انتصر الزعيم أو الحوثي يومها.. فإن النتيجة واحدة، وهي انهيار آخر محاولات الإقناع أنه يمكن للجمهورية اليمنية أن تعيش.

وقبل ديسمبر، كنت في صنعاء ضد كل اليمن، متمنياً أن تنجح محاولاتنا هذه المرَّة بعد أن فشلت في 2011 وما بعدها..

لا أدري، كيف كنا نراهن على أن يكون الحوثي شريكاً كافياً لاستعادة اليمن، اليوم حين أعيد التفكير لا أدري ما أقول لنفسي.. هل لتلك الدرجة كانت أطماعنا أم مخاوفنا أم هي ضبابية اللحظة، أم هي اليمن القديم في عناده القوي محاولاً التشبُّث.

وقد انتقلتُ من صنعاء هارباً إلى الضالع ثم عدن.. ومنها إلى أبوظبي وحضرموت والمخا والخوخة والدريهمي، واليوم أنا على هذه الربوه أتنسم هواءَ بلادٍ كأنِّي لم أعرفها من قبلُ.

كلَّ يوم وأنا أحاول الاقتراب من الحجرية، وأخيراً نجحت.. استقْلَلتُ سيارة صديقي الصبيحي، ووجدت نفسي في تلك المناطق التي كنت أمرُّ بها وهي قفر وقد صارت كلها مساكن جديدة على امتداد المضاربة وحتى طور الباحة.

مدهش الوجه الآخر للحروب، هي تقتل وتحيي أيضاً.. ومدهش ما فعله وجود التحالف العربي الذي لولاه لكانت اليمن صارت فُتاتاً في مهب الريح، كل هذه التجمعات الساكنة في الاستقرار بُنيت على اعتاق الوجود العربي.. وسيبقى هذا الوجود ثابتاً وراسخاً مهما حاولت أكاذيب السياسة التي صوّرت لنا يوماً الوجود المصري احتلالاً، وأعادتنا للإمامة من الباب الخلفي.

من لم يمر المضاربة وطور الباحة، قبل 2000م، لن يستوعب ما أقوله.. كنت تقطع هذه الطرق وحيداً، ليس هناك من قد يسقيك كأس ماء لا مجاناً ولا بقيمته، واليوم هي طرق مزدحمة، وبيوت بالمئات ممتدة توصل المناطق البعيدة ببعضها.

سأحاول السيطرة على مشاعري الجيّاشة، فأنا في مقالي هذا أريد، فقط، افتتاح الكتاب.
وها أنا -إذاً- في التربة.
هذه السَّمسرة.. هناك الأصابح، وهذه بني شيبه والأعلوم..
شربت الشاي على ضفاف جبل يافوق.. بني يوسف قلعة الإخوان، وزرت قدس، قبلة النضال التي لكأن عيسى محمد سيف لا يزال يجوس خلال الديار.
لم أتوقع أن عيسى، لا يزال أيقونة في هذه القرى.
قدس أكبر مناطق المواسط سكاناً، ولا تفرق قدس بين علي عبدالله صالح وعلي محسن، هما معاً قتلا “عيسى”..

اليوم فقط أفهم كيف بقيت دائرتهم الانتخابية محصورة فقط على من يرون في حدقات عيونه ملامح عيسى.
في زيارتيه الوحيدتين، عرف الزعيم علاقة قدس بعيسى.. وزار منزله أيضاً، ربما أنه حاول الاعتذار عن أفاعيل السياسة، ففي السياسة يراق دم القريب قبل البعيد، في لحظات صراع.

الأحكوم، القريشة، دبع.. شرجب.. وهذه هي بني حماد، لأول مرة أعرف أن المقصود في أغنية الفضول عن الضباب، يقصد به ضباب بني حماد، وادي النخيل والموز والبن.
للبن وجوده.. للبن حكايته.. اليمن هي حبّةُ بُنٍ يا سادتي الكرام.

وهذا هو “عدنان الحمادي”، تجربة أولى تعيد التاريخ إلى نقطته الأولى، ضابط يتمسك بجنديته ومنطقته، عاد إلى قريته ليناضل مع عائلته أولاً، وصحبته التي فيها من القفر ومن همدان ومن حجة، كلها الآن هناك في ضيافة ضابط جمهوري، قال: حيا على الجيش يوم أن الجيش يشتت على الأطراف السياسية.

في حضرة العميد قصص وحكايا.. سنتحدث عنها لاحقاً.
هذه منطقة كل الأسماء، وكل العناوين، هنا المعافر، مملكة يمنية عظيمة كان وجودها يرى الأشقاء هناك على الضفة الأخرى من البحر جنوباً إلى الحبشة.

ولا يزال في القلب غصة من أفاعيل النفط وأطماع الحكام.
إن زرتم الحجرية، سيدهشكم أن أسماء طافت العالم فعلاً وفكراً، هم من قرى صغيرة، قرى مزحومة سكانياً، وهذا الازدحام السكاني يولد التنافس الشديد على الأفق.. يمكن لي أن أعدد ألف اسم من التاريخ القديم والحديث والمعاصر، من هذه القرى الممتدة قادوا تحولات فكرية عظيمة، لو اعتبرناها إرثنا جميعاً بدون تحييد ولا إلغاء ستوحدنا جميعاً لقضية وطنية كبيرة.. مهما كانت اللافتات التي نحملها أصغر من وطن، أو بالأدق، أوطاننا الصغيرة التي منها يتكون وطننا الكبير.. المناطقية عندي وطن، طالما ليست عدوة لغيرها.
جئتك يا تعز، من الحجرية، معتذراً… أنقب عن بقايا وطن.. وأنت في كل قلب منك وطن.

سأغنّي من عبدالباسط وسلطان الصريمي.. تدهشني خطوات أمهاتك في الطرقات وهن على التزامهن وحضورهن، تسير الطالبات والطلاب فيك ساعات إلى حيث دور العلم.. لا يزال فيك للعلم دوره، وتتحلق الأمهات في الوديان أو في المطابخ، يقلن للتاريخ: لا نكون أمهات إن لم تعد إلى "المصعد" هذا تبحث عن لقمة من أيدينا، ولن نكون بنات حواء ما لم نتمسك بكل وادٍ، وكل شجرة، وكل زرعة.
نساء الحجرية آية من الفاعلية والحضور، لن تعرفها ما لم تسِر في طرقات القرى البعيدة.